الطموح
كانت المرأة ولقرن مضى ، لم تحظى بمكانتها التي وصلت إليها اليوم من تحقيقها لذاتها وآمالها وأهدافها ، وما تصبوا إليه من خلالا أعمالها التي اخترقت ما كان يسمونه مستحيلاً ، فلقد ارتادت الفضاء واحتلت الكثير من المناصب الهامة ، وقد أثبتت جدارتها في ذلك ، بالإضافة إلى ما ينتظرها من أعمال المنزل والمسؤولية التي تنحط على عاتقها كربة بيت ، فأعمال المرأة كانت تقتصر على المنزل فقط وفي نطاقٍ طيقٍ محدود ، حتى أن نظرة العالم لها لم تكن نظرة ذات أهمية ، وهذا ما نشأت عليه المجتمعات عامة وخاصة مجتمعنا العربي ، في حين أن الإسلام كرمها وأعلى شأنها .
إن هذه النظرة القاصرة للمرأة لم تكن تروق الكثيرات من جنس حواء المحنكة الواعية ، فظهرت من بينهن في ذاك الحين نفس أكثر جُرأةً ، أبية متطلعة ، تواقة إلى كل ما هو صعب ومستحيل ، نفس تعلم من هي ومن تكون !
قدرات وطموحات ، حماسٌ يحملها إلى أقاصي العالم ، تحطم به كل عقبة تعترض طريقها ، لتفجر ذاك الدر الكامن في أحشائها !
فالمرأة ليس ضعفاً كما يعتقدها البعض ، إنها عقلٌ يفكر ، وفكرٌ يدبر ، وبصيرةٌ تبدع ، فما أقدرها على فعل الكثير الذي يخفى عن البعض ، لو أرادت وعزمت النية .. ! فها هي فتاة الثالثة عشرة ربيعاً (روزا يونيز ) باريسية الأصل تخترق المستحيل رغم جسدها الضئيل وفقرها المعدم ، عاشت اليُتم في ظل أبيها الضعيف البنية ، ففي معظم الأحيان تقوم (روزا) بدور والدها الثمل في جلب القوت لاخوتها بكل ما تملك من عزيمة وإصرار ومهارة ، وفي خضمّ تلك المعانات ، لف العالم حول رأسها الصغير فألقت الضوء على بصيرتها الغضّه وهَبَت من فورها وأمسكت الفرشاة وبدأت ترسم خطوطاً عريضة توحي بفكرة طافت بمخيلتها ، في حين أنها كانت تتلقى أصول الرسم من والدها الذي أنهكه الفقر والهمَّ ، وقَلَ ما تجدهُ صحيحاً لإدمانه ، لقد كانت فكرة شجاعة جعلتها تتأمل حالها ، وتمعن النظر لتقرر قراراً حاسماً جريئاً لا رجوع فيه ، فذهبت من فورها إلى (سوق الخيل ) وراحت تتردد عليه كل يوم ، لا تكل ولا تمل ولا تتقاعس ، تراقب السايسين والتُجار وكل حوذي وفارس ، تتأمل الطبيعة لتُكوِن الفكرة والصورة ، تزرعها في رأسها لترسمها على قماش .. وفعلت !
استغرق عملها في صنع اللوحة 18شهراً قضتها روزا مترددة على سوق الخيل ، وبعد انتهائها من رسم اللوحة ، جرفتها الحياة في تيارها المتقلب مع الرياح العاصفة والرعد والمطر ، تتكبد المشاق والتعب والألم ،وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة ربيعاً ، وتسير بها الأيام وتمضي هكذا السنون في مد وجزر ، تناديها وتقسو عليها وأيّما قسوة ، إلى أن كان عيد ميلادها الواحد والثلاثين ، أدهشت (روزا يونيز) العالم بلوحتها الرائعة (سوق الخيل ) والتي يبلغ طوله 5 ,16 متراً مربعاً وعرضها 8 أقدام .
حدث ذلك في عام ( 1853م) حيث عُرضت لوحتها في باريس ، وبيعت بمبلغ (40) ألف فرنك ، وعندما أراد أحد الأثرياء الأمريكيين أن يبتاعها ليهديها إلى متحف (مترو بوليتان ) للفن في نيويورك ، دفع ثمنها 7 أضعاف المبلغ الأول ، كانت تلك نقلة هائلة في حياتها ، لكن ما كان ينتظر فتاة الأربعة عشر ربيعاً (روزا ) إلى جانب ذاك المجد الغير متوقع ، وساماً أعلى قدراً وشرفاً ، ففي صالون باريس أدهشت اللوحة زوجة نابليون الثالث( أُجيني ) وطلبت منه أن يقوم بمنح روزا يونيز وساماً من أوسمة الاستحقاق ، وسام (جُوقة الشرف ) ومن ثم قامت الإمبراطورة أُجيني عند توليتها العرش بتعليق الوسام على رقبة روزا وهي تقول لها :
لقد أصبغت على بنات جنسك امتيازاً جديداً .
عاشت روزا يونيز (1822_1899) وكانت أول امرأة تبلغ هذه المرتبة التي وصلت إليها بكل قوة وعزيمة ، ولم تسبقها أيُ فتاة في مثل عمرها من قبل ، إذ قال فيها ( فيكتور هوجر) أني أضعها كفنانة مبدعة خلاّقة في المقام الأول من بين النساء .
إنها المرأة تقتحم في كل يومٍ أبواباً كانت مغلقة أمامها ردحاً من الزمن ، والأهم في هذا الموضوع والذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ، أن الإسلام لم يحرم المرأة حقها في المعرفة وبلوغ أعلى المراتب في العلم والإبداع والابتكار والمطالبة بحقوقها كاملة ،فهناك الكثير الكثير من قصص النساء العرب وأمجادهن التي وصلت إلينا وستصل إلى الأجيال القادمة ، فالفكرة التقليدية التي سادت عقول الجهلاء زمناً طويلاً ، وهو الحد من طموح المرأة واقتصار مواهبها على البيت لأنها لا تجد السعادة إلا فيه ، هي فكرة أثبتت عدم صحتها وسذاجتها ، فالمرأة اليوم وصلت إلى تحقيقها لذاتها وإثباتها لمكانتها التي لم تستطع الوصول إليها قبلاً ، إضافة إلى ما ينتظرها من واجبات تجاه الزوج والأولاد ، وبل أثبتت التجارب أن المرأة الطموحة هي أكثر قدرةً وتحملاً ، لمسؤولياتها كأم وربة بيت من تلك المرأة الغير عاملة وغير طموحة .
رأيٌ حكيم :
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلقٌ وجيب قميصه مرقوعٌ
نُشر قبلاً
أ/ سلوى عبد العزيز دمنهوري
المرأة الحديدية
..S..A..D