أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
وأما السنة فقد دلت على أن الله تعالى ينزل ألوانا من الشقاء، على الأمم التي تحارب منهج الله وتصد عن هداه: شقاء الجهل وشقاء انتهاك الأعراض، وشقاء ارتكاب ما يفسد العقول، وإذا فسدت العقول وانتهكت الأعراض، وفشا الجهل، فسدت الحياة كلها! وأي حياة تلك التي تحيا بها أمة هذا شأنها إلا حياة الضنك والضيق التي بينها القرآن؟
روى أنس صَلى الله عليه وسلم، قال: "لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صَلى الله عليه وسلم يقول: (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)" [صحيح البخاري 1(/28).].
وفي حديث أبي هريرة صَلى الله عليه وسلم، عن النبي صَلى الله عليه وسلم، قال: (يتقارب الزمان، ويُلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا: يا رسول الله، أَيُّمَ هو؟ قال: (القتل الْقتل) [البخاري 8/89.].
وفي حديث أبي موسى الأشعري صَلى الله عليه وسلم، قال: قال النبي صَلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل) البخاري 8/89.]
والمقصود بالعلم في الحديث هو العلم الشرعي النافع الذي هو أصل السعادة في الدنيا والآخرة باتباع منهج الله الذي أودعه لعباده في كتابه وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم.
وليس المقصود علوم الكون الطبيعية المادية التي سخرها الله تعالى للناس ليتمتعوا بها في حياتهم الدنيا، بدليل ما نراه اليوم في كوكبنا الأرضي من خراب ودمار وظلم وعدوان من القوي على الضعيف، وكثرة القتل الذي أخبر به النبي صَلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، فهذا العلم المادي الذي أنجزته العقول إذا انفصل عن العلم الإلهي الإيماني ترتب عليه الشقاء والضنك وفقدت به السعادة والأمن والاستقرار، كما هو واضح.
ومما يدل على أن المقصود بالعلم العلم الشرعي، ما رواه أنس صَلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صَلى الله عليه وسلم، قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله) [.مسلم (1/131).]
والذي يقرأ تاريخ القرون الإسلامية الأولى المفضلة، التي انتشر فيها العلم الشرعي وضبطت به العلوم الكونية الطبيعية المتاحة، ولم تستقل عن المنهج الإلهي، بل كان هذا المنهج هو المهيمن عليها والموجه لها، الذي يقرأ ذلك التاريخ، ويقارن بينه وبين العصور التي استقلت فيها العلوم المادية عن العلم الشرعي، لا يخالجه شك في أن العصور الأولى هي التي سعدت فيها البشرية، ونعمت بالعدل والطمأنينة، وأمن الناس فيها على أموالهم وأعراضهم ودمائهم؛ لأنهم كانوا ملتزمين بهدى الله، يتعلمون الكتاب والسنة، ويعملون بما تعلموه منهما، ويطبقون ذلك اعتقاداً وقولاً وعملاً.
ولهذا أثنى رسول الله صَلى الله عليه وسلم، على تلك القرون بحسب سبقها الزمني، لسبقها العملي، كما في حديث عمران بن حصين صَلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عمران: "لا أدري أذكر النبي صَلى الله عليه وسلم بعدُ قرنين أو ثلاثة؟ قال النبي صَلى الله عليه وسلم ": (إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) [البخاري 3/151، 4/189.].
وفي حديث عبد الله بن مسعود صَلى الله عليه وسلم، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: (قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته...) [البخاري: 7/224.].
وسبب هذا التفضيل، تلك التزكية الربانية التي زكى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالوحي الذي كان ينزل عليه، علماً وعملاً، وكذا تزكية أصحابه بعده للتابعين، ثم تزكية التابعين لأتباعهم... قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [القرة 151].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة 3].
دلالة الواقع على شقاء مَن بَعُد عن هدى الله
أما الواقع التاريخي، فإن الذي يتتبع فيه حياة الأمم سيجده شاهد صدق على أن الأمة المهتدية بهدى الله، هي التي تحوز قصب السبق في العزة والتمكين والسعادة والطمأنينة في هذه الحياة، وأن الأمة الرافضة لهدى الله البعيدة عن اتباع منهجه، هي التي تمنى بحياة الذل والشقاء والاضطراب والخوف والقلق، مهما أوتيت من ثراء وقوة ومن ألوان المتع المادية، ومهما شيدت من قصور، ومدت من جسور، وشقت من طرق، وأعلت من أهرامات، تجد فيها السادة المتجبرين، والعبيد الأذلاء المستضعفين، والظلمة الباطشين المستأثرين، والمظلومين المحرومين، لا ينصر فيها القوي ـ بالعدل ـ ضعيفاً، ولا يدفع فيها القادر عن الخائف مخوفاً، كما تجد فيها الفواحش المنكرة، والأمراض الفتاكة المنتشرة، وتجد فيها الجهل بأصول الإيمان وفروعه، وبذلك يعبد أفرادها وجماعاتها أهواءهم، ويعتدون على الناس فلا يردهم عن عدوانهم إلا القوة الرادعة لهم.
وهذا ما شاهدناه في القرن- المنصرم – ونشاهده في القرن الذي نعيش فيه: القرن العشرين [ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين] الذي تطْربُ لذكره أسماع، وتخشع لعظمته قلوب، القرن الذي بُنيت فيه ناطحات السحاب، وعُبِّدَت فيه الطرق البرية الواسعات، حتى أصبح ساكن أقصى الأرض في الشرق، يسافر بسيارته إلى أقصاها في الغرب، وصنعت فيه الطائرات التي تقطع في ساعات ما بين المشرق والمغرب، وامتلأت البحار المحيطات بالسفن الضخمة، المدنية والحربية والغواصات، وأصبحت بعض كواكب السماء، للمسافرين محطات، وقد وطئت أقدام الإنسان على وجه القمر الذي كانت تشبه به الغيد الجميلات!
وهكذا ما من شيء محسوس في هذا الكون إلا كان هدفاً لتفكير المفكرين، ومحلاً لبحث الباحثين، ليكتشفوا فوائده، ويغوصوا في أعماق أسراره، ويُخضعوه للاستفادة منه مدنياً وعسكرياً.
ولكن الحياة مع ذلك كله، لا زالت حياة شقاء ونكد، تنتشر فيها الفوضى الحسية والمعنوية، ويعم كثيراً من سكان الأرض الخوف والجوع والفقر والمرض، فلا تجد شعباً ولا دولة ـ صغرت أم كبرت ـ آمنة من اعتداء شعب ودولة أخرى، تعد للاعتداء عليها العدة، وتتربص بها الدوائر، ولا تجد شعباً ولا دولة يأمن فيها الناس من الظلم والجور والإجرام.
بل إنك لتجد الجرائم تتصاعد كلما تقدم الناس في الاكتشافات العلمية والصناعات القوية، يدل على ذلك ارتفاع نسبة الإجرام والمجرمين في المحاكم والسجون والمعتقلات - عدا من لم تضبطه أجهزة الشرطة ومن يسندها ممن يسمون بأجهزة الأمن - لا بل إنك لتجد الصالح المصلح الأمين، العالم المحب لأمته الساعي إلى تحقيق مصالحها وسعادتها، هو المجرم المكبل بالقيود المودع في المعتقلات، المُصْلت على رقبته سيف الموت من قِبل من آتاه الله القوة من المتكبرين الطغاة، الذين هم أولى بوصف المجرمين، وأحق بالسجون والمعتقلات والنفي والقتل.
كما تجد من يموتون جوعاً، في كثير من المعمورة، وبجانبهم من يموتون من الشبع والتخمة، وتجد العرايا من الملبس والبساط والغطاء، لا يجدون ما يستر عوراتهم، ولا ما يفترشونه تحت جنوبهم، وما يتغطون به من الحر والقُرِّ، وبجانبهم من يؤثثون المنتزهات المؤقتة ـ بله المساكن الدائمة ـ بأجود أنواع الأثاث، وقد امتلأت خزائنهم بالملابس الغالية، وافترشوا الزرابي والنمارق.
وتجد من يدعي مناصرة حقوق الإنسان والديمقراطية، وهو يفتك بالإنسان قتلاً وتشريداً، ويربي الكلاب والقرود، ويقدم لها ما تشتهيه أنفسها من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ورخاء، وتكبت أي صوت يرتفع مطالباً بالعدل والمساواة، إذا لم يكن ذلك الصوت مؤيداً لمدعي مناصرة حقوق الإنسان والديمقراطية زوراً وبهتاناً.
إن هذا العصر الذي توجد فيه هذه الكوارث وغيرها، لمن أعظم شواهد الحق، على أن الأمة التي تَبْعُد عن منهج الله وهداه، خليقة بالشقاء والخوف والقلق والاضطراب والدمار، مهما أوتيت من متاع الدنيا الزائل، وأن التربية الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله ‘، هي التي تجلب للأمة السعادة، وتجنبها من الويلات والضنك والمحن، وتبدلها بذلك الحياة الطيبة المستقرة السعيدة.
ومما يدل على ذلك أن حياة الشعوب الإسلامية التي حافظت على القليل من منهج الله، إلى الآن هي أسعد من غيرها من الدول التي لم تحافظ على شيء من ذلك.
إن تعليم الأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عَليه وسلم، وتزكيتها بذلك، وحملها على العمل بهما، هي التي تحقق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع معاً، بدون طغيان بعضها على بعض، كل يأخذ حقه، ويؤدي واجبه، بدون صراع ولا نزاع ولا تطاحن، بل برضا واطمئنان، فلا يفرض أمن فرد ولا أسرة ولا مجتمع بقوة السلطة فحسب، لأن الفرد والأسرة والمجتمع يؤمنون بالواجبات والحقوق، وبالتعاون على البر والتقوى، فلا طغيان لأحد على سواه، وإذا أراد أحد الاعتداء على غيره، وجد ما يردعه من أحكام الشرع التي كلف الله الأمة تطبيقها على القوي والضعيف، فتحسم بذلك الشر وتستأصله .
هذا وقد دفعني التأمل في أحوال الناس عامة، وأحوال المسلمين خاصة، أن أجمع في هذا الكتاب جملة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الإسلام ما عسى أن يقنع المسلمين أولاً، وغيرهم ممن ينشدون الأمن والسعادة ثانياً، بضرورة السعي الجاد لتطبيق التربية الإسلامية، ليترتب على تطبيقها أثرها، وهو أمن الفرد والأسرة والمجتمع، وأنه بدون ذلك لا أمن ولا حياة طيبة سعيدة، مهما توفرت أسباب الرفاهية المادية.
وسميته: "أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي" إشارة إلى أن ما يسمى بأجهزة الأمن لا تحقق - مستقلة عن هذه التربية - للفرد والأسرة والمجتمع الأمن المنشود، بل إنها بدون تربيتها على منهاج الله تشيع في الأمة الذعر والخوف، بدلا من الأمن الذي توصف به.
هذا وقد جعلت الكتاب في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: تربية الفرد. الجزء الثاني: تربية والأسرة.
الجزء الثالث: تربية المجتمع.
محتويات الكتاب
وقد احتوى الكتاب ما يأتي:
تمهيد.
الجزء الأول: تربية الفرد وفيه ثلاثة فصول:
1 ـ الفصل الأول: تربية الفرد بالعلم النافع.
2 ـ الفصل الثاني: تربية الفرد بالعمل الصالح.
الجزء الثاني: تربية الأسرة وفيه فصلان:
1 ـ الفصل الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة.
2 ـ الفصل الثاني: حقوق أفراد الأسرة بعضهم على بعض.
الجزء الثالث: تربية المجتمع، وفيه ثلاثة فصول وخاتمة:
1 ـ الفصل الأول: السعي لتحقيق الأخوة الإسلامية.
2 ـ الفصل الثاني: تجنب الأسباب المؤدية إلى فقد الأخوة الإسلامية أو ضعفها.
3 ـ الفصل الثالث: تحقيق معنى الولاء والبراء في نفوس المجتمع الإسلامي.
4 ـ الخاتمة، وتشتمل على ثمرات التربية الإسلامية.