أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


صفة المطر الذي يبيح الجمع.
إذا سلمنا بأن الجمع من أجل المطر جائز، وأنه لا حرج من الجمع أثناء وجوده؛ فإن الإشكالية تبقى في صفة المطر الذي من أجله تجمع الصلاة، فهل كل مطر يجمع من أجله الصلاة؟ أم لابد أن تتوفر فيه مجموعة من الصفات؟ وإن كان ذلك لا بد فما هي تلك الصفات؟ وما مذاهب وأقوال العلماء في صفة المطر؟ هذا ما نحاول أن نجيب عنه في هذه النقطة.
وأبدأ بما نقل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه:" كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ، جَمَعَ مَعَهُمْ". هكذا نُقِل الأثر، والذي يدل أن عبد الله ما كان يجمع بين الصلاتين إلا عند وجود المطر ونزوله، وليس مظنة نزوله من وجود السحاب في السماء، ورطوبة الجو، وهبوب الرياح الباردة.
ومما يُستند عليه في بيان صفات المطر الذي تجوز عنده الجمع ما نقله مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ:" أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا كَانَ الْمَطَرُ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَشْيَخَةَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمْ وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ ". وقوله "إذا كان المطر" فيه دلالة على وجوده وتحققه لا وجود علاماته.
وأيضا ما نقله هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ " أَنَّ أَبَاهُ عُرْوَةَ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ إِذَا جَمَعُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ "
قوله: "فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ" فيه بيان شاف وكاف لصفة المطر الذي يجوز عنده الجمع، حيث عبر بقوله مطيرة على وزن فعيلة، وهي من أوزان المبالغة، التي تدل على وجود المطر بكثرة وغزارة، ومستمر وغير منقطع.
وقال الإمام مالك بعدما روى حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ:" أُرَى ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ"([23]).
وتفسير مالك للحديث يبين لنا أنه إذا كان المطر واقعا وموجودا أثناء الصلاة وليس متوقعا أنه يجوز الجمع؛ لأنه ما ترك الحديث على ظاهره؛ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين من غير عذر.
وقال أبو زيد القيرواني:" ورخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر"([24]). وقال أيضا في النوادر والزيادات:" من المَجْمُوعَة قال عليٌّ، ، عن مالك: وسُنَّة الجمع ليلة المطر إن تمادى للمغرب ... ومن الْعُتْبِيَّة من سماع ابن القاسم في المطر الدائم لا يرجون كشفه، فلهم الجمع فيه. وقال مثله ابن القاسم في المَجْمُوعَة "([25]).
وهذا النص من الإمام مالك الصغير يبين لنا بعض صفات المطر الذي يجوز عنده الجمع؛ والتي يمكن جمعها في الصفات التالية:
أولا: أن تكون في ليلة المطر، بمعنى أن الجمع يشترط فيه المطر والظلمة، وبالتالي سيكون خاصا بالمغرب والعشاء دون الظهر والعصر، وهذا ما ذهب إليه المالكية والحنابلة وخالفهم في ذلك الشافعية.
ثانيا: أن يكون المطر متماديا ودائما في النزول، لا يرجى كشفه؛ بمعنى أنه لا يجوز الجمع في حالة توقع نزول المطر أن تكون السماء ملبدة بالغيوم، بل لابد من وجود وتحقق المطر واستمراره في النزول من غير توقف، أما إذا نزل المطر وانقطع قبيل المغرب، فلا يجوز الجمع في قول مالك وابن القاسم.
وقال أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي المالكي في شرحه للرسالة:"(وَرُخِّصَ) أَيْ سُهِّلَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوْ السُّنِّيَّةِ (فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ) الْغَزِيرِ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَشُقُّ مَعَهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَنَازِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاقِعِ أَوْ الْمُتَوَقَّعِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ"([26]).
وهذا النص فيه إضافة يمكن إجمالها في ما يلي:
أولا: أن المطر لا بد أن يكون غزيرا وليس خفيفا، يحمل الناس على تغطية رؤوسهم بحيث يشق معه الوصول إلى المنازل.
ثانيا: لا يشترط في المطر الوقوع، بل واقع أو متوقع بشهادة قرائن الأحوال الدالة على نزول المطر، هاته الأحوال جرت العادة في وجودها وحصولها نزول المطر، لكن قوله أن المطر ينبغي أن يكون غزيرا الذي يحمل على تغطية رؤوسهم ينقض هذا الأمر، لأنه كيف سيعطون رؤوسهم من مطر متوقع نزوله.
ونقل الإمام ابن عبد البر عن الإمام الشافعي أنه يجوز الجمع بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ إِذَا كَانَ الْمَطَرُ قَائِمًا دَائِمًا وَلَا يُجْمَعُ فِي غَيْرِ حَالِ الْمَطَرِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المتقدم([27]).
وقَالَ الإمام الْمَاوَرْدِيُّ الشافعي:" قَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وغنى، وذكرنا أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا كَانَ مُسِيئًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، أَوْ عَاصِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا ولا عاصياً، والعذر على ضربين:
الأول: خاص
الثاني: عَامٌّ، فَالْعُذْرُ الْعَامُّ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْبَارِدَةُ، وَالْوَحْلُ الْمَانِعُ إِلَّا أَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ فِي جَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَجَوَازِ الْجَمْعِ بين الصلاتين، والوحل، والريح ليس بِعُذْرٍ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّلْزَلَةُ، وَالْخَوْفُ الْعَامُّ مِنْ مُتَغَلِّبٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ
"([28]).
وهذان النصان يثبتان أن المطر لابد أن يكون قويا وغزيرا، وواقعا وليس متوقعا.
وقال الماوردي أيضا:" لا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ وَكَثِيرِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ قَلِيلُهُ يَبُلُّ الثَّوْبَ لِحُصُولِ الْأَذَى بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبُلَّ الثَّوْبَ لِقِلَّتِهِ كَالطَّلِّ وَالرَّذَاذِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ لِعَدَمِ الْأَذَى بِهِ"([29]).
وهذا النص من الإمام الماوردي يثبت أن العلة من الجمع هي الحصول المشقة الناتجة عن ضرر وأذى بلل الثوب؛ فأي مطر يحصل منه بلل الثياب، والتي ترجع على لابسها بالضرر والأذى فيجوز عنده الجمع لحصول المشقة، أما المطر الذي لا تحصل منه مشقة كأن يكون قليلا بحيث لا يبل الثوب، أو لا يعود على الإنسان بالضرر كأن يكون مثلا في الصيف فلا يجوز الجمع عنده.
وهذه العلة نفسها ذهب إليها الإمام النووي ونصرها حيث قال:" ولا يجوز الجمع إلا في مطر يبل الثياب وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يجوز الجمع لأجله لأنه لا يتأذى به"([30]).
وكذلك الإمام ابن قدامة الحنبلي:" وَالْمَطَرُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. وَأَمَّا الطَّلُّ، وَالْمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، فَلَا يُبِيحُ"([31]).
ومن خلال هذه النقول يمكن أن نقول: أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين من أجل المطر إلا إذا توفرت في المطر الصفات التالية:
- تحقق وجود المطر ونزوله، فلا يجوز الجمع عند عدمه أو توقعه؛ وهو المفهوم من فعل عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن، وكل هؤلاء أئمة يقتدى بهم.
- أن يكون المطر نازلا مع وجود الظلمة، فالعلة من الجمع بين الصلاتين علة مركبة من المطر والظلمة، لأنه إذا عللنا الجمع المطر نقضت بعدم الجمع بين الظهر والعصر، لأنه رغم وجود المطر في النهار فإننا لا نجمع، وكذلك لم يقل أحد من العلماء أن الجمع معلل بالظلمة، لثبوت أن وقت العشاء لا يدخل إلا بعد نزول الظلام، وهذا موافق لما أول به الإمام مالك الحديث، لأنه لم يعتبر الجمع بين الظهر والعصر، وقال بالجمع بين العشاء لوجود الظلمة، وإلا انتقضت علته؛ ولقد سألت الشيخ محمد التاويل عن هذا الأمر فأجابني بأن العلة هنا مركبة وليست بسيطة.
قال الإمام الباجي في تعليل الجمع بين المغرب والعشاء دون الظهر والعصر، وفي توجيه قول الإمام مالك:"إذا ثبت ذلك فإن ظاهر الحديث وتفسير مالك له يقتضي إباحة الجمع بين الظهر والعصر بضرورة المطر.
وقد روي عن مالك كراهية ذلك وإنما كرهه لأن الغالب من أحوال الناس تصرفهم في معايشهم وأسواقهم وزراعاتهم وغير ذلك من متصرفاتهم في وقت المطر والطين لا يمتنعون من شيء من ذلك بسببهما فكره أن يمتنع مع ذلك من أداء الفرائض وهي عماد الدين في أوقاتها المختارة لها ولا يمتنع لأجله من السعي في أمور الدين وليس كذلك المغرب والعشاء فإنه ليس بوقت تصرف وإنما يتصرف من الجمع بين الصلاتين إلى السكون في منزله والراحة فيه مع أن مشقته بالنهار أخف لأن له من ضوء النهار ما يستعين به على المشي وتوقي الطين وذلك متعذر مع ظلام الليل"([32]).
- أن يكون كثيرا وغزيرا يبل الثوب الذي تلحق المشقة بالخروج فيه ويحمل الناس على تغطية رؤوسهم؛ أما إذا كان قليلا ولا تحدث معه المشقة والحرج ولا يبل الثوب الذي يلحق بالانسان الضرر من شدة البرد فلا يجوز الجمع، وهذا الأمر مأخوذ من قولهم ليلة مطيرة التي تدل على الكثرة والغزارة، وهي من أبنية صيغ المبالغة.
- تمادي المطر وهطوله ودوامه وعدم توقفه حتى الشروع في الصلاة الثانية؛ أما إذا انقطع أثناء الصلاة الأولى أو عند الانتهاء منها فلا يجوز الجمع لتخلف جزء علته وهو المطر وهذا ما ذهب إليه ابن القاسم من المالكية، وكذلك أغلب الأئمة الشافعية.
هذه هي صفات المطر الذي يجوز عندها الجمع بين الصلاتين، أما إذا لم يكن للمطر هذه الصفات فإنه لا يجوز الجمع؛ ومن ثم تعلم أن كثيرا من الناس الذي يجمعون قد خالف ما جاء في السنة الفعلية، وما نقل عن الصحابة والأئمة المجتهدين؛ ذلك لأنك حينما تأتي وتحاول أن تنزل هذه الصفات على أرض الواقع، لكي تعرف هؤلاء الناس حينما يجمعون قد وافقوا السنة وما قاله أصحاب المذاهب الفقهية أم لا؟ تجد أغلبهم قد اخترع لنفسه في هذه المسألة قولا ومذهبا لم يقل به أحد من الفقهاء، ترى أحدهم لا يجمع بتاتا، ولو سقطت الديار و تزلزلت الأراضي من شدة المطر وكثرته، وترى آخرا على نقيضه يجمع ولا مطر ينزل، بل أحيانا يجمع لظهور بعض السحابات المتفرقات في السماء. وهذا ناتج عن عدم تكلفهم عناء البحث لمعرفة الخطأ من الصواب، والحق من الباطل.