أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الفصـل الأول
التعريف بالإمامين
الهيثمي والبوصيري
العصر التاريخي للهيثمي والبوصيري :
يعتبر عصر الحافظين الهيثمي والبوصيري ، العصر السياسي بعد سقوط دولة الخلافة العباسية ، آخر تجمع قرشي للعرب والمسلمين على يد الهمج والرعاع من الخونة والمغول ، اضطربت الدولة الإسلامية أيما اضطراب ، فلم تعرف البشرية عصراً وصل فيه الحقد ، والتشفي ، والقتل ، وحرق الكتب ، والتنكيل بالمواطنين مثل ذلك العصر الذي دخل فيه أحفاد هولاكو المنطقة العربية ، وهكذا استيقظ العربي المسلم ليجد مارداً كبيراً جاثماً على صدره ، متمدداً تمدد الأخطبوط بآلة عسكرية بشعة مثل أفكار أصحابها الغزاة ، فلم يستطيع مجاراة الفكرة ولا حتى مجرد تقبلها أن دولته الإسلامية ومعقله الاجتماعي ذهب من غير رجعة ، وبقيت الدولة الإسلامية من غير خلافة ، تعصف بها الأهواء وتتضاد فيها الأطماع وتحولت إلى دويلات بل كيانات صغيرة مجتمعة لا تغني ولا تسمن من جوع ، فكيف إذا تفرقت ؟!
وكانت البلدان العربية في كل أقطارها تفتقر إلى وجود سلطة عليا تضبط أمورها على المدى القريب ، وفي تلك الحقبة في أواسط القرن السابع ، تناحرت الدويلات كما تناحرت في القرن الرابع الهجري دويلات الأندلس ، على أيدي ملوك الطوائف الأندلسية حتى جاءهم يوسف بن تاشفين فوحد الجزيرة الخضراء من أقصى عدوة المغرب ووضع أُلئك الخلفاء الضعفاء في سجونه في أقصى المغرب ، كما حدث لابن زيري والمعتمد بن عباد .
وفي تلك اللحظات كانت مصر ( مهد الحافظين ) بلداً مضطرباً تكثر فيه النزاعات والحروب ، فالصليبيون بقيادة لويس التاسع الذي انتصر عليه الملك الصالح الأيوبي نجم الدين ، من جانب ، وصراع المماليك أنفسهم مع بعضهم البعض من جانب آخر ، ففي سنة ( 648 ) في 28 محرم قُتل توران شاه المعز أيبك أول المماليك البحرية ، ثم حكمت شجر الدر لمدة ثمانين يوماً ثم قتلت في 16 ربيع الآخر سنة ( 655 ) .(1)
وفي سنة ( 660 ) وهي السنوات التي عصفت بمصر جاء إلى مصر أحمد بن علي بن أبي بكر ابن الخليفة المسترشد ابن الخليفة المستظهر فبويع خليفة للمسلمين ، وأصبحت بعده القاهرة مقراً للخلفاء العباسين ، وكانت تلك الفترة فترة عصيبة من تغير الولاة والخلفاء ، وظهور الدولة العثمانية في الأناضول سنة ( 669 ) وبهذه الفترة تغير على مصر ستة سلاطين هم : الظاهر بيبرس ( ت 18 محرم 676 ) وبعد ابنه الملك السعيد أبو المعالي محمد ، ثم خلع الملك السعيد سنة ( 678 ) وتولى أخوه الملك العادل سيف الدين ابن الظاهر بيبرس ، ثم خلعه وتولى في رجب سنة ( 678 ) المُلك ، ثم توفى السلطان قلاون سنة ( 869 ) وتولى بعده ابنه صلاح الدين خليل هكذا إلى أن وصل إلى آخر سلاطين بني قلوون سنة ( 784 ) أي بعد ولادة الهيثمي والبوصيري بسنوات طويلة .
وفي هذا العصر كان الهيثمي كان قد بلغ الخامسة والأربعين والبوصيري جاوز الثامنة والعشرين ، فكل منهما أثر في شخصيته العلمية تلك السنوات العجاف ، من تقلب السلاطين ، وتقلب البلاد معهم ، ومع تقلب البلاد تتقلب العامة والعلماء ، وتغلق الأسواق ، ويقل الأمن والأمان ، وتقل الحركة العلمية ، وذلك لأمور :
1. عدم ضبط الثغور والبلدان المترامية الأطراف تقل الرحلة في طلب العلم خوفاً من القتل والتشريد والأسر .
2. تقل أعطيات الدولة للعلماء والفقهاء والخطباء ، ممن يورث الطبقة العلمية فقراً يجعل من هذه الطبقة غير فعالة في اتجاه إصلاح المجتمع ، والنهوض بالدولة والعمران ، وتفقيه العامة وحضهم على عدم الوقوع في انتفاضات ضد الدولة .
3. من المعروف أن طلبة العلم يتجمعون حول شيوخهم الأغنياء ، ولا يعني ذلك أن الشيوخ الفقراء ليس لهم طلاب ، بل إن الشيوخ الأغنياء والمتصلون بالدولة يستطيعون أن يؤسسوا لمدرسة مهمة رائعة تقوم بأعباء جسيمة في إصلاح المجتمع والدولة كما حصل مع المدرسة الكلامية التابعة لابن دؤاد في عهد المأمون وغيرهم .

المناخ العلمي لذلك العصر :
بعد سقوط الشام وبغداد بيد التتار وذلك سنة ( 656 ) توجه أهل العلم بشتى أصنافهم نحو القاهرة العامرة ، وكانت آنذاك تحت سلطة المماليك ، وكان للماليك آنذاك ولع في العلم وبناء المساجد ودور العبادة وأكرموا أهل العلم ، بل وصل الإكرام فيهم لأهل العلم أن الملك الصالح نجم الدين أيوب قد نزل على رأي العز بن عبد السلام في بيع المماليك لصالح دولة الإسلام وباعهم رحمه الله في ساحات القصر الكبير فيهم قبل الصغير .
وساهم المماليك في إرساء أرضية علمية رائعة في مصر والشام ، وهذه الأرضية تمثلت في :
1. اعتنائها بالعلماء والفقهاء وإجراء الرواتب والأعطيات عليهم ليستطيعوا قطع الأوقات في تعليم العامة .
2. بناء المساجد كرديف للمدارس حيث كان التدريس فيها يأتي بعد المدارس كمسجد الأزهر الذي أصبح فيما بعد في الدولة العبيدية منارة للعلم ، وياللخسارة كيف أصبح في زمننا هذا .
3. بناء المدارس الممتدة التي أُوقف عليها العلماء لتدريس الحديث والفقه .
يقول ابن كثير في تاريخه في حوادث سنة ( 744 ) عن المدرسة الناصرية بالقاهرة : كان عدد المدرسين ثلاثين في كل مذهب فجعلهم السلطان أربعاً وخمسين .
فتصور أخي كم لهم من الرواتب ، والأعطيات ، وكم لهم من خدم وممن يقومون على تنظيف وترتيب هذه المدارس ، ما الله بهم عليم .
وشاركت المرأة في هذه العملية الحضارية ، وهي صنو الرجل في التعليم والتعلم ، ففي هذا العصر عصر الهيثمي والبوصيري نجد العالمات المحدِّثات والفقيهات والمسندات مثل ست العز بنت محمد بن الفخر ( ت 767 ) ، وقد سمع منها الحافظان العراقي والهيثمي ووالد ابن رجب وزينب بنت إسماعيل بن الخباز التي تتلمذ لها العراقي رحمه الله ، وغلب على أهل هذا القرن العلم والبحث في جميع المجالات الفقهية والأدبية والجغرافية والفكرية .
وفي عصر الحافظين الهيثمي والبوصيري ، كانت هناك مدرسة متكاملة ، كان يقودها الحافظ العراقي ( ت 806 ) ، وكانت هذه المدرسة قائمة على إحياء ما اندثر من العلم ، فكان أول إحياء للعلم إعادة مجالس الإملاء التي اندثرت ، وسن الحافظ العراقي سنة حسنة بإحياء هذا التراث الذي اندثر عبر سنوات خلت بعد الإمام ابن الصلاح رحمه الله ، وكان هذا العصر عصر جهابذة أفذاذ جمعت الهيثمي ( ت 807 ) والبوصيري ( ت 840 ) والحافظ ابن حجر ( ت 852 ) وولي الدين العراقي ابن زين الدين ( ت 826 ) والذهبي ( 748 ) وابن كثير ( 774 ) وغيرهم ، وهذه الطبقة من سنة ( 620 - 880 ) هي الطبقة الثالثة من الطبقات الذهبية التي ختمت بها عصر الحفظ والحفاظ ، فكانت الطبقة الأولى طبقة محمد بن سيرين والشعبي إلى النسائي ، ثم تلتها الطبقة الثانية من عصر ابن جرير إلى ابن الصلاح ، ثم تلتها الثالثة من عصر ابن الصلاح إلى عصر الحافظ قاسم بن قطلوبغا رحمهم الله أجمعين .
بداية الطريق للإمامين :
شب الهيثمي والبوصيري رحمهما الله في بيئة علمية وحياة تعليمية رائعة وكبيرة ، فنجد مثلاً البوصيري رحمه الله حفظ القرآن وجوَّد في بلده أبي صير على يد الشيخ عمر بن الشيخ عيسى (2)، ثم انتقل إلى بيئة أوسع وأكبر فيها تتسع المدارك ، وتتلقى العلوم الكبيرة ، وكذا الهيثمي فلقد سمع وصحب الشيخ زين الدين العراقي وسمع معه أبا الفتوح الميدومي ، وابن الملوك ، وابن القطرداني وغيرهم ، وهذه البيئة العلمية الرائعة التي فيها المحدثون والفقهاء ، والخطباء ، وكان فيها تنافس على جمع السنن والمسانيد ، كما فعل ابن كثير في جامع المسانيد ، والمزي في تهذيبه لكمال المقدسي وغيرها ، كان له أكبر الأثر في نفس الإمامين بدفعهما إلى مجالس أهل العلم .
ومصر كما هو معروف عنها في ذاك الزمان ، بلد الأزهر ، وبلد العلم والحديث ، فكان فيها قبل الهيثمي والبوصيري العز بن عبد السلام ، والزكي المنذري ، وقد ألف الثاني موسوعته الرائعة التي استفاد منها كلا الرجلين وهي الترغيب والترهيب ، وكان المصريون ومنذ فتح الله مصر وعمها الإسلام ، مولعون بالقرآن والكتابة والتأليف ، فجاءها من الصحابة والفقهاء والعلماء ما الله به عليم ، حتى لأنك ترى الأزهر فيه الحلقات الكبيرة والمتسعة ، والتي يدرس فيها أرباب المذاهب الأربعة الكبيرة المتبعة ، على عكس ما فعله محمد علي باشا لما أحكم السيطرة على مصر ضايق الفقهاء والأزهريين في لقمة عيشهم ، وسيطر على الأوقاف الأزهرية وضمها للدولة ، مما جعل السيطرة التعليمية في الكتاتيب(3) والأزهر أغلقها محمد علي .
تلك هي البنية التي عاشها الرجلان طفولتيهما من البنية العلمية الرائعة ، والمدارس الفكرية المختلفة ، ومن الفقهاء والخطباء والمحدثين مما جعلهم يتولعون بالعلم وأهله ، حتى غدا كل منهما باحثاً مهماً في عالمنا الإسلامي الكبير .
1. تاريخ الدولة العثمانية ، محمد فريد بيك ، دار النقاش ، بيروت ، بلا رقم ولا تاريخ ، ص 93 .
2. الضوء اللامع ( 1 : 161 ) .
3 . ينظر : قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ( ص 179 ) .