أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وأرسل رسوله بالدين الصدق، والصلاة والسلام على بدر التمام، المبعوث رحمة للأنام بالشريعة الختام ومنهج القوام، أما بعد:
فهذه سياحة جديدة على ساحل الرواية ضمن سلسلة كنت قد ابتدأتها عبر صفحات هذا المنتدى المبارك، أظهرت منها موضوعا واحداً واليوم أشد عضده بأخيه غير سائر على تسلسل ونهج معين، وإنما أكتب ما يعنّ لي في البال وما يكثر عنه السؤال.
وموضوع هذه الكلمة حول مسألة مهمة تتلخص في سؤال يشغل الأذهان وهو: متى يتصدر المجاز للإجازة؟
وقبل أن أشرع في إلقاء سنارتي في ساحلي الضحل، أود أن أبين مسألة منهجية في تحرير مسائل الرواية وهي أنه يجدر بنا تقسيم عصور الرواية إلى ثلاث مراحل: مرحلة كان يعتمد فيها على الرواية والأسانيد في إثبات صحة وضعف المروي، وتليها مرحلة اعتمد فيها على الأسانيد في نقل الكتب وتوثيقها وتصحيح النسخ ونحوه، والمرحلة الأخيرة حين صارت الرواية لوصل الأسانيد بالمقام النبوي، والإنتساب للقوم، وحفظ الأسانيد، واستمرار بقاءها، وأهمية هذا التقسيم أن يفرق في أحكام الرواية وشروطها في كل مرحلة منها، إذ لكل منها خصوصيته، فقد يكون من شروطها في المرحلة الأولى ما أضحى في عداد المتجاوز عنه في متأخرها فلينتبه لهذا الأمر.

ومن هذا المنطلق أقول:
أولا: هل يجب أن يكون المجيز من أهل العلم والتحصيل؟
هذا السؤال بحثه أهل العلم في علم الأصول والمصطلح في أبواب الرواية وشروطها، واختلفوا هل يجب أن يكون الراوي فقيها بمروياته أم أنه يكفي فيه مجرد ضبط المروي؟ ومن رأى عدم الاشتراط جعل أصله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضَّرَ الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتي فحمَلها، فرُبَّ حامل فِقْه غير فقيه، ورُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه)، ويبين ذلك المناوي في فيض القدير فيقول (بيَّن به أنَّ راوي الحديث ليس الفقه من شرْطه، إنَّما شرْطُه الْحِفظ، أمَّا الفَهم والتدبُّر فعلى الفقيه، وهذا أقوى دليل على ردِّ قَبول مَن اشترط لقَبول الرواية كون الراوي فقيهًا عالِمًا)، واستدلوا كذلك بحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) إذ اقتصر فيه على وجوب الأخذ عن أهل العدالة ولو لم يكونوا من أهل الفقه، قال في شرح مختصر الروضة: (وأما ما ذكروه من أن غير الفقيه مظنة سوء الفهم ؛ فلا يلزم ؛ لأنا إنما نقبل روايته ، إذا روى باللفظ ، أو المعنى المطابق ، وكان يعرف مقتضيات الألفاظ ، والعدالة تمنعه من تحريف لا يجوز ؛ فيكون ما يرويه لنا لفظ صاحب الشرع أو معناه ، وحينئذ نأمن وقوع الخلل ، ويجب علينا العمل).
قلت: تحرير الخلاف أن من اشترط في الراوي أن يكون فقيها إنما ذلك خشية من تحريفه للرواية إذا كانت روايته لها بالمعنى، أما إن ضبط النص النبوي وحافظ عليه وكان من أهل الإتقان في النقل فمثل هذا لا يشترط فيه الفقه، وهو القيد المذكور في الحديث (فبلغه كما سمعه)، بل من تتبع أحوال بعض المسندين الكبار من أصحاب العلو يجد أئمة قد جثوا بين أيديهم تطلبا لعلوهم مع أن منهم من المعدودين في العوام، ومن أمثلتهم أبو العباس الحجار الذي سمع عليه خلق كثير من أئمتنا كابن تيمية والعلائي وابن كثير والذهبي والمزي، ومن لطيف ما يقيد من أخباره مما يدل على عاميته أنه سئل عن عاق والديه فقال يقتل!

لكنني أقول أن فقه الراوي أو على أقل الأحوال ضبطه لنصوص الأحاديث وأسماء الرواة والأماكن تعد من مهمات هذا العصر لأن العجمة دخلت على أمتنا، ومن مقصود علم الرواية إتقان قراءة الحديث النبوي وضبط ألفاظه، فيحسن بالمتصدر لإقراء الحديث أن يحسن تصحيح الألفاظ وضبطها على أقل الأحوال، ومع ذلك لا أعد هذا شرطا خاصة في حال الأخذ عن أصحاب الأسانيد العالية وقد يكون صاحبها أعجميا أو عاميا، ففي هذه الحال ينبغي للطالب المستجيز أن يعتمد على غير مجيزه في تصحيح الألفاظ وضبطها، وأن يحرص على ذلك ليجمع بين الحسنيين: علو الإسناد، وضبط الأحاديث.

ثانيا: هل ثمة سن معينة لا يجوز التحديث قبله، وهل يشترط أن لا يحدث إلا بعد وفاة شيوخه؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال أشير إلى نقطة مهمة وهي أن توسع المجازين بالأداء بعد تحملهم مباشرة أحدث العديد من السلبيات على رأسها انشغال بعض المبتدئين أو غير العارفين بجمع الأسانيد النازلة على حساب أصحاب العلو، وفيه من تضيع الأوقات والنزول بالأسانيد ما فيه ومن عجيب ما يقيد في ذكره شيخنا في القراءات العلامة المحرر محمد علي عثمان، وقد ضرب لنا مثلا فقال: أعلى الأسانيد التي وصل لنا بها القرآن في هذا العصر لرواية حفص تتكون من 27 طبقة، وجاءت هذه الطبقات في 1400 سنة، يعني بمعدل 52 سنة لكل طبقة، أي في كل 52 سنة تنزل طبقة الإسناد مرة واحدة، اما في أيامنا هذه ينزل الإسناد 4 أو 5 درجات في سنة واحدة والله المستعان!!
فمبادرة بعض الإخوة بالتصدر للإجازة حال تحصيلهم إياها أدى إلى نزول عجيب في الأسانيد حتى سماها أحدهم المسلسل بالأحياء! ومن عجيب ما سمعت من أحد زملائي أنه اتصل به أخ يسأله التدبج بالإجازة فقال له صاحبنا ما هي أسانيدك فذكر له سندا يكون فيه صاحبنا في طبقة شيخ شيخ المتصل وهو غير منتبه لهذا فالله المستعان!!
فينبغي للمجاز أن لا يبادر بإجازة الناس حتى تظهر الحاجة إلى أسانيده أما في حال توافر أسانيد من هم في طبقة شيوخه أو أعلى فمن عدم الإحسان أن يتصدر هو لها..
أما تحديد سن معينة فغير وارد وإنما الضابط هو أن يحتاج إليه وإلى مروياته.
وهنا نقطة إذ قد يوظف بعض طلبة العلم الإجازة بالأسانيد تشجيعا للطلبة في دروس الدراية فهنا أرى أنه لا مانع من الإجازة ولو توافر شيوخ المدرس إذ أصبح المقصود منها أمر عظيم فيتساهل في هذا لتحصيل المصلحة الأعظم وفي القاعدة الفقهية: يتساهل في الفرع ما لا يتساهل في الأصل
وللموضوع صلة..