أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


من ''مشيخة الإلغيين من الحضريين'' :


... في عشية يوم بعد أن صليت المغرب نحو شهر ربيع الثاني 1342هـ، قال لي صاحبي سيدي الحسن الساحلي رحمه الله: إن الشيخ شعيبا الدكالي الشهير، قد حضر اليوم في موكب السلطان مولانا يوسف، وقد افتتح الآن في ''مسجد المواسين'' درس ''البخاري''، فهل لك أن نحضر عنده لنشاهده ونعرف كيف قراءته التي تذكر عند الناس بتعجب؟ فقلت له وأنا أقوم: هيا بنا إليه، ثم قلت له ونحن في الطريق: إن سيدي سعيد التناني كان يحكي لي وأنا لا أزال في بلادنا أنه رآه، فرأى منه فصاحة نادرة وعلما جما، واستحضارا غريبا، ثم ولجنا المسجد من بابه الغربي، فتلقتنا رنة صوت متموج هزاز لأفئدة السامعين، فكان ذلك خير ترحيب بالإبن المقبل الذي سينضوي تحت حضن والده الشيخ شعيب، ثم ينزح في أبناء علمه البررة، ثم لم نمش بعد دخولنا من الباب إلا قليلا، حتى وصلنا أطراف الجالسي.نفأخطأنا عمدا، فصرنا نتخطى الرقاب، حتى استدرنا من ناحية الباب الجنوبي، فأبصرنا الشيخ على المنبر في أثناء القوس المتوسط من الصف الأخير من الصفوف الأولى التي في قبلة ساحة المسجد ووجهه إلى القبلة، وقد اكتظت كل الصفوف أمامه إلى جدار المحراب إلى الباب الجنوبي والباب الشمالي، علاوة على الذين جلسوا في وسط صحن المسجد، فجلسنا هنالك حيث الباب الجنوبي، وبيننا وبين الأستاذ ما لو كان بيننا وبين غيره من الأساتذة لما سمعنا ما يقول، ولا أدركنا من تقريراته شيئا، ولكن صوت الشيخ شعيب الرنان الصيت كان يغمر المسجد على سعته، بل يتجاوز ذلك إلى الأزقة والدروب التي تحاذي المسجد، فكثيرا ما تقف النساء في درب الحمام، وأصحاب العربات في الزقاق عن جنوب المسجد يستمعون فيدركون ما يقول الشيخ، وهو في وسط الجامع.

كان أول ما طرق أذني في تلك الساعة، أنني سمعته يقرر في حديث ''الهدي'' حين ساق البدنة المشعرة سائق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركبها، فقال إنها هدي، فكرر عليه، فقال له ثالثا: اركبها ويحك، فأفاض الشيخ في ذلك الحديث، وهو يتدفق ويطفح حججا، فكان مما قال: ''إن الهدي عند المالكية منهي عن ركوبه، وهذا الحديث وارد عليهم، وقد مال إليه فخر المالكية ابن العربي المعافري فقال: إن ركوبه وإن كرهه مالك فلسنا له بممالك، ونقول به متبعين محمدا ابن عبد الله، وإن لم يقل به أبو عبد الله (يقصد مالك)، كل ذلك بعبارة عربية مبينة حلوة، تسيل من فيه سيلانا مطردا بلا تكلف، فأخذت والله علي قلبي حتى أحسست إذ ذاك بأنني أقع على كنز ثمين لم أقع له على نظير في كل ما مضى من حياتي، ثم لما استرسل في الدرس، وهو يخب ويضع، وينص بتقرير يموج موج البحر الخضم، وصل لفظة ''شهد''، فقال إن هذه الكلمة تأتي في لسان العرب بمعنى حضر، قال الله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، وبمعنى أقر، ومنه قول المؤذن: ''أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله''، يقول ذلك والمؤذن يؤذن للعشاء، فكانت خير مصادفة، ومر هكذا في الدرس، فما شئت من لغويات ومن نحويات وبيانات وأصوليات وفقهيات وتواريخ وآداب، وتراجم الرجال المذكورين في الدرس، وهو يتلو من ''الألفية'' و''المتون الصغرى'' النحوية، ومن ''المختصر'' و''التحفة'' و''الزقاقية''، ومن ''التلخيص''، ومن ''جمع جوامع''، ومن أشعار العرب ما يحتاج إليه للاستشهاد، فقلت: أهذا هو الشيخ شعيب الذي نسمع بذكره؟ وهل هذا هو الذي يحمل عارفيه حتى يجمعوا على أنه فريد العصر، ومفخرة الدهر، ويتيمة العقد، والضالة المنشودة؟ ثم استمر الدرس أكثر من ساعة، ولم يقم المختار منه حتى وضع الشيخ شعيب في صدره بيده المباركة بذرة صالحة تعهَّدها بعد ذلك بالسقي حتى آتت أكلها.

تلك العشية هي الوقت الذي حد ما بين المختارين، ذلك المختار الوضيع القنوع المتزمت المزَّمِّل في شملة الخمول، المكتفي بترديد بعض أدبيات جافة مُملة باردة، ملأ بها وقته، وأفنى فيها سنوات، يرددها كما يردد الجائع نواة في شدقيه، يتبلغ بما يرتشفه منها، وما يرتشف منها إلا ما يزيده سغبا على سغب لو كان ممن يعلمون، وبين المختار الذي يرفع رأسه ويتطلب أن يلم بكل علم، ويقبل بنهم زائد، وإمعان في خوض المعارف، لعله يكون له من بين حملته نصيب.