[grade="00008B FF6347 008000 8B0000"]
حضارة الإنفراد الذاتي
تتوالى الأيام ولا تتوانى تمضي بنا قدماً ، ويتقدم الزمان فنزداد تقدماً وتأخراً ، إنها المظاهر البراقة والكلمة تحضرنا ، لكن الحقيقة .. أننا تراجعنا وعدنا إلى الوراء حيث الجهل والعصبية والقبلية ولأحزاب والتطلعات إلى ما عند الغير باسم الحضارة والديمقراطية ، ومع هذا التقدم المحرز والرقي المزعوم ، فُقِدت المجتمعات الكبيرة وأصبحت الأسرة أفراداً متفرقين ، كلٌ يلوذ إلى نفسه .
بات كل عضو فيها يشعر أنه فرد من بين أفراد لا فرد في مجتمع ، مما جعل الوحدة تتسلل إلى النفوس ، تسكن تستقر وتستوطن ، لذا نجد كَثرَة الأمراض النفسية والتوترات والمعاناة المتطرفة التي يعاني منها الشباب في هذه الأيام ، فالشاب في كل زمان ومكان ، يعيش وحيداً مع ذاته لا يحيد عنها ، فلقد فَقَدَ أبواه وهما لا يزالان على قيد الحياة ، وأمست الخادمة هي الأم البديلة والسائق هو الأب المعتمد ، إذ تعصف به الحياة ، يسير فيها متخبطاً ، فإن لم تنقذه فطرته وهدايته فمن ذا الذي يقف إلى جانبه ، يبحث عن ذويه ليشاطرونه أفراحه وأحزانه فلا يجد غير بضع دقائق وربما سويعات متفرقة ، لتعتمر بين حناياه القسوة فيصبح متعصباً برأيه متشبثاً به . ويلوذ إلى أحضان غرفته التي جهزت بكل وسائل الراحة والرفاهية ، وبكل ما تصبو إليه النفس ،لكن .. أهم شيء فيها مفقود ، ألا وهي روح الجماعة التي تشعره بالأمان والحماية من أي عارض مفاجئ قد يغزو حياته ، فإن أخطأ عيونها تراقبه وإن أساء تردعه وتدله ، وإن أحسن ساعدته وشكرته .
هو الماضي .. كانت الجماعات والأُسر كنفس واحدة ، لا يتسنى لأيّ عضو فيها الانفراد بذاته ولو للحظات يخلو فيها إلى نفسه ، فالمصلحة المشتركة تسيّره والتفاني والشعور بالانتماء والولاء يقيده والجماعة تنظر إليه وتوجهه ، أما ألان فقد تقدم الإنسان وبالأحرى تحضر ، والحضارة تستلزم الاستقلالية ! إذ أنه تربى على الانفراد الذاتي منذ أن كان وليداً في مهده ، فإن من تمام الرقي أن يكون لكل فرد من أفراد الأسرة حجرة مخصصة له ، ليرث الاكتئاب والانفعالات التي ليس لها أي مبرر .
.كم هو إحساس مؤلم عميق حين ينشأ الفرد بلا هوية أو بلا شخصية أو حتى بلا هدف أو طموح ، فالكل يلهث وراء لاشيء ، في الليل والنهار ، ضياع بلا ضياع ، إن الشاب في عصرنا الحالي يعيش حيرة دائمة وتوتر واضطراب مستمر لا يرضى بشيء ولا يكفيه إن فرشت له الأرض ذهباً وقد تضطره تلك الانفعالات إلى افرغ إنسانيته فيتحول إلى وحش لا يعرف أحداً ، ولا يهمه أحد غير ذاته وإرضاءها ، وبأي وسيلة كانت ، وبذلك يصبح مخرباً أو متطرفاً أو إرهابياً يمزق كل ما هو جميل ومتواضع ، كما أنه يشعر بالغيظ والغيرة من كل ما هو نقي وطاهر ، ولا يحب أن يرى العفة في شيء مما يثير لديه الرغبة في الانتقام والخلاص من كل ما هو أجمل وأفضل منه ، ففي اعتقاده أنه هو فقط من يعمّ ويسود .
إن هذه هي الديمقراطية التي نشأت عليها الأجيال في هذا العصر ، عصر التوتر والقلق إذ تنشأ في النفس الآلام من غير ألم والوحدة من غير وحدة وقد يؤدي ذلك إلى الأنانية والتسلط والتشبث بالرأي وإن كان مخالفاً للحقيقة .
فالفرد يتوق لمعرفة ما به ، لكن هيهات ..فما به وهمٌ عاش فيه وسراب نُصِبَ له وأحلام لانهاية لها ومستقبل مصرد غير مأمون .
كم هو واقع مرير حقاً ، أن نفقد المربي الجيد والفيلسوف المفكر ليدلنا بصدق إلى كيفية الوصول إلى الارتباطات ذات المعنى للبالغين والراشدين والشباب والغارقين في بحار الظلام والجهالة ، لقد نجح الغرب في تغليف حلوى الغزو بصورة تذهلنا وتنسينا ماضينا المجيد لننساق خلف تياراها المجون حتى لا نكون !
لقد تهدمت أعمدة معابد الحب فوق رؤوسنا ولم تعد تحركنا إلا وحوش ذات ألف مخلب ومخلب تغرز سموم الكراهية والحقد بين أبناءنا وفينا نحن إن صح التعبير ، لأننا نقف مكتوفي الأيدي وكأننا جمهور في ملعب كرة ، نشجع ونراقب إلى من ستؤول الغلبة ونكبح مشاعرنا حينئذ !
وبالتالي نقف كمتسولين في سبيل قضية مجهولة الفهم لأننا فقدنا المعرفة لنوع السلاح الذي يستخدمه الغرب لبرمجة عقول شبابنا وانسلاخهم عن الانتماء إلينا فإن كل ما يحاربوننا به محشو بالحب المزيف والبطولة الذاتية التي قد تتماشى مع استهواء الأجيال الصاعدة .
أغوص في معنى الحياة وأعو د لذاتي لأجدها تغرق في بحر التأملات باحثة عن الأمل الذي أحلم به ويحلم به كل إنسان ، لأننا لم نعد قادرين على تحمل الاضطرابات ، فممارسة الإنسان لحياته حائراً قلقاً أشبه بالأرض الجدباء زُرعت دماراً وأنبتت شوكاً وحسكاً يدمي عقله وتفكيره، وروحه الحائر التي لا تزال تبحث عن الحقيقة ! فما حولنا إبداعات للخالق وكل ما يحيط بنا هو مظهر من مظاهر الحياة ، فمن يستطيع أن يتأمل ما حوله ، فليتدبر ما في الطبيعة ليراها تتحدث عن الحقيقة ، بكل أفعالها واختراعاتها وشموخها وحتى تواضعها ، فالإنسان فيها محاصر بمعاناة واضطرابات وقلق واكتئاب وانحرافات وغرائز متوحشة ، وروح مظلمة ، ومن خلال الصعاب والتجارب والآلام في هذه الحياة نتعلم . فالاستقلالية شيء مهم في حياتنا حين تنشأ بين أفراد الأسرة من خلال التآلف والحب الإنساني العميق الذي يربط بعضهم بعضاً ، فالإنسانية ليس لها حدود أو قيود أو مسافات أو هوية وما أحوجنا لها لنعيش الحرية الحقّة . حرية الروح بإشعاعاتها المضيئة بالرأفة والتسامح والرحمة والولاء والتواضع ، لا تلك الحرية المطّلقة التي تجرنا إلى دياجير الظلام والتي قد تؤدي بنا إلى المهالك والعياذ بالله .
رأي حكيم :
إذا لـم تحصـد شـيئاً مـن حديقتـك فـلا تلـم التربـة علـى ذلك وإنـما اللـوم علـى مـن وضـع البـذور
أ/ سلوى دمنهوري
نشر في عدة صحف ومجلات ومواقع
المرأة الحديدية
S..A..D[/grade]