أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


( القول المختار في مسألة طلب الاستغفار)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علمنا ما لم نعلم وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلا والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.

أما بعد:
ليس من عادتي الدخول في مثل هذه المسائل المحتملة لكن حصل ان اصبحت هذه المسائل سببا للتفربق بين الموحدين وفوات خير عظيم ولوضع الأمور في نصابها ووضع حد لمن يتكلمون بدين الله تعالى نقليدا بغير علم ودرءا للفتنة أضع هذه الرسالة الشافية الوافية وسميتها:
القول المختار في مسألة طلب الاستغفار
أولا: إن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى من أعظم الفساد في الأرض ولا يكون إلا بانتشار الجهل والتحريف فمن اتخاذ العلماء أربابا من دون الله تعالى وان كانوا لا علاقة لهم بذلك هو اتخاذ أقوالهم حجة ملزمة للخلق والتعامل معها كالتعامل مع الدليل الشرعي وإنزالها منزلة الدليل الشرعي لان هذا معناه جعل كلام العلماء ككلام الله تعالى وككلام رسوله عليه الصلاة والسلام ومساواة لهما وهذا نص عليه سبحانه وتعالى بقوله: بل الذين كفروا بربهم يعدلون() ، هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فان الله تعالى قال: فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر()، فالرد إلى الله والرسول هو الإيمان والرد إلى غير الله تعالى وغير الرسول عليه الصلاة والسلام كفر بالله واليوم الآخر.
ثانيا: إن الانطلاق من قاعدة تاصيلية صحيحة هو الدعوة على بصيرة فيخرج القول محكما متينا فأقول:
1- إن الشرك إنما هو بعبادة غير الله تعالى ولقد سبق أن بينت معنى العبادة بالدليل الصريح على أنها ثلاثة أنواع:
الأول: الدعاء.
الثاني الحكم.
الثالث: الولاء.
2- تنقسم العبادة إلى قسمين:
الأول: ما هو حق خالص لله تعالى لا يشاركه فيه احد من خلقه لا نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذا القسم هو الدعاء الذي له ثلاثة معان هي:
أ- ما يتعلق بالأسماء الحسنى.
ب-السؤال ( تضرعا وخفية) قال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين()
ج- التقرب والتنسك وهو الفعل بقصد التقرب إلى الله تعالى أو فعل الشعائر التي جعلها الله تعالى لنفسه كالصلاة والصوم والذبح والنذر وغيرها.
الثاني: ما فيه مشاركة بحيث يكون فعلها عن طريق من أذن الله تعالى له بذلك وهذا القسم هو:
1- الحكم ويشمل التشريع والحكم والتحاكم.
2- الولاء ويشمل الطاعة والإتباع والمحبة والنصرة.
بناء على ما سبق فان ما يتعلق بقوله تعلى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }يونس
فهذه العبادة هي بمعنى الدعاء ( الشفاعة)والتي لا مشاركة فيها بدليل :
1- قوله تعالى:ِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ()
2- وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }.
3- يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }
وغيرها من الآيات
فما ورد من آيات متعلقة بهذا النوع إنما يراد به العبادة بمعنى الدعاء التي هي التسمية بالأسماء الحسنى والسؤال(تضرعا وخفية) والتنسك.
إضافة إلى أنها متعلقة بالأصنام والأوثان التي من صفتها أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا قال تعالى:
1- قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ }الشعراء
2- وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ }فاطر13
3- أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ }الصافات12
وهذه الأصنام إما أن تكون تمثل الصالحين أو الشياطين فكلها أوثان لا تضر ولا تنفع كونها لا حياة فيها ولا روح ولا تتحرك ولا تبصر قال تعالى: ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعو شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون().
وهذه العبادة ( لان علة العبادة هي النفع والضر وهي غنى المدعو وفقر الداعي)فعلها للأصنام شرك ويقاس على الأصنام الأموات في العلة وهي أنهم لا يملكون ضرا ولا نفعا لأحد .

أما بخصوص الأحياء فهم يشتركون مع الأصنام والأموات فيما يتعلق بعبادة الدعاء سواء النبي المرسل أو النبي المقرب.
لكن يختلفون بما يتعلق بالعبادة التي فيها اشتراك وهي الحكم والولاء :
فالله قد جعل الحكم لرسوله ولبعض عباده في أمور بينها
وجعل التحاكم إلى الرسول عليه السلام ومن ينوب عنه.
وجعل طاعة الرسول عليه السلام وأولي الأمر طاعة له
وجعل إتباع الرسول عليه السلام واتباع سبيل المؤمنين وهو الإجماع محبة له
وجعل محبة الرسول عليه السلام ومحبة المؤمنين محبة له
وجعل نصرة الرسول عليه السلام ونصرة المؤمنين نصرة له .
ملاحظة: ليس كل لفظ دعاء في القرآن بمعنى عبادة غير الله تعالى للأدلة التالية:
قوله تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا () فالله تعالى اثبت دعاء الرسول ودعاء المسلمين بعضهم بعضا بصيغة التقرير والإثبات وانه من المشروع.
قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء() وهذه ليس بمعنى الشرك.

وأما مسألتنا وهي طلب الاستغفار من الرسول عليه السلام.
1- إن طلب الاستغفار من الرسول عليه السلام أو من الصالحين في حياتهم ليست عبادة لغير الله تعالى وإنما عبادة لله تعالى فهي ليست من عبادة الدعاء التي لا تتعدى إلى غير الله تعالى.
فالعلة في جوازها :
أ_ أنها ليست دعاء وإنما طلب دعاء أي: طلب طلب ولذلك فان البناء اللغوي يعني اختلاف مبنى الكلام والزيادة في المبنى يعني الزيادة في الكلام يعطي زيادة في المعنى فشتان بين الدعاء وطلب الدعاء.
فدعاء الرسول عليه السلام حيا أو ميتا شرك.
بينما طلب الدعاء منه حيا ليس شرك بل إيمان .
ب- أن طلب الاستغفار من النوع الثاني من العبادة وهو الولاء الذي تكون فيه مشاركة بمعنى أن يكون قد أذن الله فيه ومتوقف فعلها على الدليل الشرعي : آلله أذن لكم أم على الله تفترون()
وعليه فان هذا الفعل طلب الاستغفار من الأنبياء أو الصالحين ينقسم إلى نوعين:
1- نوع شركي وينقسم إلى حالتين:
الحالة الأولى: وهي بمعنى الشفيع ومعنى الشفع: ضم الشيء إلى مثله. وقوله: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) أي يدبر الأمر وحده لا ثانى له في فصل الأمر إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه.أ.هـ المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص263.
أي: أن يعتقد طالب الاستغفار أن الله تعالى لا يغفر الذنوب للعبد إلا عن طريق استغفار الأنبياء أو الصالحين وهذا عبادة بمعنى الدعاء لأنها متعلقة بالأسماء الحسنى والتقرب.
الحالة الثانية: أن يكون طلب الاستغفار من باب محبة الله تعالى للرسول والصالحين وأن لهم منزلة عند الله تعالى مع اعتقاد أن استغفارهم قد حصل منه المغفرة لان في هذا ركون ويؤدي إلى أن يدخل الشيطان على العبد فيزين له المعاصي من باب انه مغفور له وهذا شرك لأنه تحليل ما حرم الله وانسلاخ من الشريعة وهذا ما حدث عند الصوفية.وهاتان الحالتان متعلقهما الأحياء و الأموات .
- النوع الثاني غير شركي وينقسم إلى حالتين:
الحالة الأولى: وهو طلب الاستغفار من الأنبياء والصالحين لان الله تعالى يتقبل من المتقين وهذا من باب حسن الظن بهم وهذا في حال حياتهم من باب محبتهم لله تعالى وان الله أمرنا بمحبتهم دون غلو فيهم وهذا مشروع.
– النوع الثاني : وهو طلب الاستغفار من الأنبياء والصالحين بعد موتهم مع عدم الغلو فيهم كأنهم أحياء وهذا لا يستحيل شرعا وفعله متوقف على الدليل وهو بهذه الصفة يكون بين البدعة والمشروع لان البدعة فعل شيء في الشرع على صورة مشروعة بصفة لم يرد بها الدليل فالمشروع هو ثبوت فعل ذلك في حالة الحياة والابتداع إنما حصل في الفعل المشروع ولكن على صورة لم ترد صريحة في الشرع وهذا لا يكون إلا بناء على رد إلى دليل شرعي مرجوح .
– فطلب الاستغفار كفعل من الطالب ينبني على المقدمات التالية:
المقدمة الأولى:: مخاطبة المطلوب منه والخطاب إنما بحق من يسمع الخطاب والموتى يسمعون الخطاب ولكن لا يتمكنون من الرد لاختلاف تعلق الروح ولذلك سأنقل كلام محقق لهذه المسالة هو الشيخ الأصولي محمد الأمين الشنقيطي ما نصه: اعلم أن التحقيق الذي دلّت عليه القرائن القرءانيّة واستقراء القرءان، أن معنى قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:
الأول: أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، أي: لا تسمع الكفار الذين أمات اللَّه قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع؛ لأن اللَّه كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر،
وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحقّ سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرءانية الدالَّة على ما ذكرنا، أنّه جلَّ وعلا قال بعده: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}.
فاتّضح بهذه القرينة أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم اللَّه إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}، فمقابلته جلَّ وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، بقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا}، بل لقابله بما يناسبه، كأن يقال: آن تسمع إلاّ من لم يمت، أي: يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.
وإذا علمت أن هذه القرينة القرءانيّة دلّت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء، الذين لا يسمعون الحقّ سماع هدى وقبول.
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتّباع؛ كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً}، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأمّا سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية، كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللَّه في هذا المبحث. أ.هـ أضواء البيان توضيح القرآن بالقرآن
المقدمة الثانية: أن السماع عام لا يختص بحالة دون حالة وحقق هذه المسألة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ما نصه: اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلّمهم، وأن قول عائشة رضي اللَّه عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالاً بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي اللَّه عنها، وممن تبعها.وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدّمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعدّدة، ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.أ.هـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
المقدمة الثالثة: متعلقة بالرسل أنهم أحياء في قبورهم وهذه الحياة متمثلة بمظهرين:
الأول: أن الأرض لا تأكل أجسادهم، عن أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: « إن من أفضل أيامكم يومَ الجُمُعَةِ ، فيه خُلِقَ آدمُ ، وفيه قُبِضَ ، وفيه النَّفْخَةُ ، وفيه الصَّعْقَةُ ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ، فإنَّ صلاتكم مَعْرُوضة عليَّ ، فقالوا: يا رسول الله ، وكيف تُعرضُ صلاتُنا عليك وقد أرِمْتَ ؟ قال : يقولون : بليت -[قال]: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء » أخرجه أبو داود والنسائي.
وفي جامع الأحاديث للسيوطي: أخرجه ابن ماجه (1/524 ، رقم 1637) ، قال البوصيرى (2/ 59) : هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع . وقال المنذرى (2/328) : رواه ابن ماجه بإسناد جيد . وقال المناوى (2/87) : قال الدميرى : رجاله ثقات.
الثانية: ان الأنبياء أحياء في قبورهم ويصلون: أخرجه أبو يعلى (6/147 ، رقم 3425) ، وتمام (1/33 ، رقم 58) ، وابن عساكر (13/326) . وأخرجه أيضًا : الديلمى (1/119 ، رقم 403) ، وابن عدى (2/327 ، ترجمة 460 الحسن بن قتيبة المدائنى) ، وقال : أرجو أنه لا بأس به . قال الحافظ في الفتح (6/487) : أخرجه البيهقى في كتاب حياة الأنبياء في قبورهم وصححه . وقال المناوى (3/184) : رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك ، وهو حديث صحيح .
واثبات الحياة لهم إنما هو إخراج عن حالة غيرهم في القبور وإلا لم يكن فائدة من ذكرها.
المقدمة الرابعة: متعلقة بالرسول عليه الصلاة والسلام
فقد ثبت عنه انه يستغفر لامته وهو قوله عليه الصلاة والسلام : حياتى خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتى خيرًا لكم تعرض على أعمالكم فإذا رأيت خيرًا حمدت الله وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم . أ.هـ
رواه البزار كما يلي: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادَ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ زَاذَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ آخِرُهُ لاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
فهذا الإسناد فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وثقه الإمام احمد وغيره وضعفه آخرون وقد ذكره الذهبي رحمه اله تعالى في كتابه : ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق ص124 فهو ثقة عند الذهبي .
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى : صدوق يخطئ و كان مرجئا أفرط ابن حبان فقال : متروك.
ورواه الحارث بن أبي أسامة: كما يلي: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا جَسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ .أ.هـ ،وهذا إسناد مرسل صحيح .
ورواه ابن سعد أيضا: حياتى خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتى خيرًا لكم تعرض على أعمالكم فإذا رأيت خيرًا حمدت الله وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم (ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلاً)، جمع الجوامع للسيوطي حديث رقم 12123.فعلى هذا فالحديث صحيح .
وذكره السيوطي في جامع الأحاديث كما يلي: 11667- حياتى خيرًا لكم ومماتى خيرًا لكم (أبو نصر الحسن بن محمد اليونازنى في معجمه ، وابن النجار عن أنس)
وهذا الحديث ورد من رواية كلهم ثقات لكن فيه عبد المجيد بن عبد العزيز ابن أبي رواد وهو ثقة مختلف فيه ومن وثقه أكثر ممن ضعفه وهم أساطين علم الحديث :
الإمام احمد بن حنبل
يحيى بن معين
أبو داوود
النسائي
وعلى فرض انه ضعيف من قبل حفظه فان الرواية المرسلة الصحيحة تقويه.
وقد ضعف بعضهم هذا الحديث بعلة أوهى من بيت العنكبوت وهي الشذوذ بدعوى أن الحديث ورد عن سفيان دون زيادة : حياتي خير لكم .. الخ ومعلوم أن الشذوذ هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه وكلامهم باطل من وجوه:
الأول: أن هذا حكم منهم على عبد المجيد انه ثقة.
الثاني: أن هذا ليس شذوذا وإنما زيادة في الرواية والزيادة من الثقة مقبولة.
الثالث: أن الشذوذ يكون في نفس المتن وليس متعلق بالزيادة فاختلاف الألفاظ في المتن هو الشذوذ.
المقدمة الخامسة: قوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ()
فهذه احتمال عمومها فيه وجه وان كان مرجوحا لكنه شبهة للفاعل فهو يسند فعله لدليل شرعي على فعل ورد بصورة مشروعة.
فاجتماع المقدمات الشرعية السابقة في هذا الفعل يدل دلالة صريحة على أن الحكم ليس للفعل بحد ذاته وإنما للاعتقاد المصاحب له لأنه على ما تقدم فهو من تفصيلات الشرائع وليس من أصل الدين فهنا ثلاث مناطات للحكم:
الأولى: فعل طالب الاستغفار وهو ينبني على مقدمات شرعية من سماع المخاطب وحياته وانه يستغفر لامته وهذا بحق الرسول عليه الصلاة والسلام وأما غيره فيكون بالقياس سواء تخطيء أو مصيب وهذا الفعل بحد ذاته لا يمكن أن يدخله الشرك بأي حال فهو ليس بمعنى عبادة غير الله تعالى مطلقا ومن جعله كذلك فقد افترى على الله بغير علم .
الثاني: فعل المخاطب والحكم على طالب الاستغفار إنما يكون بحسب الاعتقاد في المخاطب الذي ثبت عنده حياته واستغفاره ومن اثبت الحياة وان الرسول عليه السلام يستغفر لامته في قبره فقد جاء بأمر لا ينكره الشرع فلا يمكن أن يلحق هذا الاعتقاد حكم الشرك بحال من الأحوال.
الثالث: نتيجة طلب الاستغفار وهي من علم الغيب ويدخل فيها الاعتقاد فيكون الحكم معلقا بصفة الاعتقاد. كما تم بيانه في حالات الاستغفار سابقا.
ثم إذا كان طلب الاستغفار في الحياة مشروعا وهو إيمان بالله فكيف يكون نفس الفعل شركا وعبادة لغير الله تعالى إذا اختلفت الحالة وهل من صفات الله تعالى انه يستغفر للخلق وهل من أسمائه انه المستغفر حتى يكون طلب الاستغفار من فعل شيء من خصائص الله تعالى فهذا يحتاج إلى نظر فليس الشرع مجرد كلام يهذ هذا وإنما مبني على قواعد ثابتة وأصول متينة ليكون الكلام معلوم المخرج والمدخل .

وأخيرا:
عمدة من قال بكفر طلب الاستغفار بإطلاق على قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الذي اعتمد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
فبخصوص قول ابن تيمية رحمه الله تعالى فانه نص بقول صريح على أن هذا ليس شركا بقوله ما نصه: وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ الْأَدْعِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَدْعِيَةِ الْبِدْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي اتِّبَاعُ ذَلِكَ . وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ :
- إحْدَاهَا أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي أَوْ أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِك أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ......أ.هـ الفتاوى 1/1-350
- الثَّانِيَةُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ : اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَائِزًا وَمُخَاطَبَتُهُمْ جَائِزَةً ......اأ.هـ الفتاوى 1/351.
- الثَّالِثَةُ أَنْ يُقَالَ: أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ عَدَلُوا عَنْهُ إلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي لَفْظِ " التَّوَسُّلِ " مِنْ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَسُّلِ وَالتَّوَجُّهِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ وَلُغَتِهِمْ هُوَ التَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَسَّلَ وَيَتَوَجَّهَ بِدُعَاءِ كُلِّ مُؤْمِن.... أ.هـ الفتاوى 1/356.
فهذا كلام ابن تيمية عليه رحمة الله الصريح الذي يقول فيه أن طلب الدعاء من الميت هي من البدع وليس من الشرك لأنه جعل المراتب ثلاثة :
الأولى شرك
الثانية بدعة
الثالثة منهي عنه
ومسألتنا من الثانية التي هي عنده بدعة وليس شرك بنص صريح.
وأما بخصوص كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن بعده فان عمدتهم بناء على كلام ابن تيمية الذي ذكره بعد كلامه السابق والذي بين فيه المراتب الثلاث وهو قوله ما نصه: قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ . وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ أَيْ نَطْلُبُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا فَإِذَا أَتَيْنَا قَبْرَ أَحَدِهِمْ طَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَنَا فَإِذَا صَوَّرْنَا تِمْثَالَهُ - وَالتَّمَاثِيلُ إمَّا مُجَسَّدَةٌ وَإِمَّا تَمَاثِيلُ مُصَوَّرَةٌ كَمَا يُصَوِّرُهَا النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ - قَالُوا : فَمَقْصُودُنَا بِهَذِهِ التَّمَاثِيلِ تَذَكُّرُ أَصْحَابِهَا وَسِيَرِهِمْ وَنَحْنُ نُخَاطِبُ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ وَمَقْصُودُنَا خِطَابُ أَصْحَابِهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ . فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا سَيِّدِي جرجس أَوْ بِطَرْسِ أَوْ يَا سِتِّي الْحَنُونَةُ مَرْيَمُ أَوْ يَا سَيِّدِي الْخَلِيلُ أَوْ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ اشْفَعْ لِي إلَى رَبِّك .
وَقَدْ يُخَاطِبُونَ الْمَيِّتَ عِنْدَ قَبْرِهِ : سَلْ لِي رَبَّك . أَوْ يُخَاطِبُونَ الْحَيَّ وَهُوَ غَائِبٌ كَمَا يُخَاطِبُونَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا حَيًّا وَيُنْشِدُونَ قَصَائِدَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فِيهَا : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسَبِك أَنَا فِي جِوَارِك اشْفَعْ عَلَى عَدُوِّنَا سَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذِهِ الشِّدَّةَ أَشْكُو إلَيْك كَذَا وَكَذَا فَسَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ هَذِهِ الْكُرْبَةَ . أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: سَلْ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وَيَقُولُونَ : إذَا طَلَبْنَا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ كُنَّا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُخَالِفُونَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَلَا سَأَلَهُ شَيْئًا وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَحَكَوْا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِمْ وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .
مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَيَذْكُرُونَ فِيهِ حِكَايَاتٍ وَمَنَامَاتٍ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ . وَفِيهِمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصَائِدَ فِي دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَدِيحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ تَعَبَّدَ بِعِبَادَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً ؛ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً سَيِّئَةً لَا بِدْعَةً حَسَنَةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَذْكُرُونَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الشِّرْكِ مَنَافِعَ وَمَصَالِحَ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِحُجَجِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ أَوْ الذَّوْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ وَالْمَنَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا الِاحْتِجَاجُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَالثَّانِي الْقِيَاسُ وَالذَّوْقُ وَالِاعْتِبَارُ بِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا يُظَنُّ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. وَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ شَرَعُوا لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَلَا يَسْتَشْفِعُوا بِهِمْ لَا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَلَا فِي مَغِيبِهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ اشْفَعُوا لِي عِنْدَ اللَّهِ سَلُوا اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا أَوْ يَرْزُقَنَا أَوْ يَهْدِيَنَا .
وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ لِمَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي اسْتَغْفِرْ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي أَنْ يَغْفِرَ لِي أَوْ يَهْدِيَنِي أَوْ يَنْصُرَنِي أَوْ يُعَافِيَنِي وَلَا يَقُولُ : أَشْكُو إلَيْك ذُنُوبِي أَوْ نَقْصَ رِزْقِي أَوْ تَسَلُّطَ الْعَدُوِّ عَلَيَّ أَوْ أَشْكُو إلَيْك فُلَانًا الَّذِي ظَلَمَنِي وَلَا يَقُولُ : أَنَا نَزِيلُك أَنَا ضَيْفُك أَنَا جَارُك أَوْ أَنْتَ تُجِيرُ مَنْ يَسْتَجِيرُ أَوْ أَنْتَ خَيْرُ مُعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ . وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ وَرَقَةً وَيُعَلِّقُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ مَحْضَرًا أَنَّهُ اسْتَجَارَ بِفُلَانِ وَيَذْهَبُ بِالْمَحْضَرِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ بِذَلِكَ الْمَحْضَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ فِي مَغِيبِهِمْ فَهَذَا مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا لِأُمَّتِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ نَقْلٌ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلٌ بِذَلِكَ وَلَا فَعَلَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَا غَيْرِهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لِأُمَّتِهِ أَوْ يَشْكُوَ إلَيْهِ مَا نَزَلَ بِأُمَّتِهِ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ .
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ وَلَا قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقُولُ : نَشْكُو إلَيْك جَدْبَ الزَّمَانِ أَوْ قُوَّةَ الْعَدُوِّ أَوْ كَثْرَةَ الذُّنُوبِ وَلَا يَقُولُ : سَلْ اللَّهَ لَنَا أَوْ لِأُمَّتِك أَنْ يَرْزُقَهُمْ أَوْ يَنْصُرَهُمْ أَوْ يَغْفِرَ لَهُمْ ؛ بَلْ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَكُلُّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهِيَ بِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ وَهِيَ ضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْبِدَعِ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ وَلَا وَاجِبٍ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ .أ.هـ الفتاوى ص158-162.
فكلامه هذا يعتبر مبنيا على قوله السابق في المراتب الثلاث وزيادة تفصيل لا تغيير للمراتب فافهموا ذلك وكل كلامه هذا يرد إلى المراتب الثلاث كل بحسب مرتبته .
وأما ما تحته خط فقد ورد تحت عنوان فصل بالنص التالي: فَصْلٌ:
وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ - فِي حَقِّ أَشْرَفِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَرْفَعِ الشُّفَعَاءِ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمِهِمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِأَحَدِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْغَائِبِينَ وَلَا الْمَيِّتِينَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : يَا سَيِّدِي فُلَانًا أَغِثْنِي وَانْصُرْنِي وَادْفَعْ عَنِّي أَوْ أَنَا فِي حَسْبِك وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ - لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ - صَارَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ كَمَا يَضِلُّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَيُغْوِيهِمْ فَتَتَصَوَّرُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَتُخَاطِبُهُمْ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاشَفَةِ كَمَا تُخَاطِبُ الشَّيَاطِينُ الْكُهَّانَ وَبَعْضُ ذَلِكَ صِدْقٌ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَذِبٌ بَلْ الْكَذِبُ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّدْقِ أ.هـ مجموع الفتاوى 1/359.
فهو هنا يتكلم عن المرتبة الأولى التي هي شرك بتفصيل تام ولم يذكر مسألة الاستغفار ويجعلها فيها وأنها من الشرك وقارن بين النصين وراجع كلامه من ص359-368
ثم لما عمموا الشرك على مسألة الاستغفار إنما هو بناء على الواقع فلم يكن احد يفعلها بالصورة التي تخرجها عن الصورة الشركية إضافة إلى أنهم يتكلمون عن مشركين أصلا.
اللهم مكن لعبادك الموحدين واجمع شملهم والف بين قلوبهم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين