بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دعوة عامة لارتكاب الأخطاء
الخطأ من طبع الإنسان، وهو أمر متوقعٌ منه دائماً، سواء في حقه أو في حق غيره، لذا كان خير الخطائين منّا التوابون، فلسنا ملائكة ولكننا بشر، نصيب تارة ونخطئ تارات.
كثيرون منا ينظر إلى ارتكاب الأخطاء نظرة سلبية قاتمة، وينسى أن الحياة برمتها قائمة على الثنائيات، ومنها ثنائية الصواب والخطأ (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فلا يمكن أن تستقيم الحياة على جانب واحد أبداً. والحقيقة، أن عدم ارتكاب الخطأ.. خطأ. كما أن إعادة ارتكابه .. خطأ أيضاً! فمن لم يرتكب أخطاءً، لم يتعلم شيئاً في حياته. كما أن من أعاد ارتكاب الأخطاء نفسها، لم يتعلم من أخطائه! والحياة سلسلة من تجارب شتى، وكل تجربة تتضمن أخطاءً لا محالة. ومجرد ارتكاب الأخطاء ليس شراً محضاً كما قد يتصور بعضنا.
عندما يرتكب الإنسان الخطأ، يكون بلا شك أمراً مؤلماً في حينها، لكن تراكم الأخطاء يصبح مع الوقت أمراً إيجابياً! فكل المؤسسات المرموقة في عالمنا اليوم تبحث عن «أهل الخبرة» .. وما الخبرة في النهاية إلا مجموعة أخطاء! فإذا كنت أنت أكثر «خبرة» مني، فهذا يعني أنك ارتكبت أخطاء أكثر وأكبر من أخطائي! فالخطأ ـ دون أن نعي ـ أصبح فضيلة خفية، يُبحَث عنها ويُكرَّم من يحمل أكبر رصيد منها.. لماذا؟ لأن الذي كثرت أخطاؤه وتنوعت، وكان فطناً، أصبح أكثر دراية بطريقة تفاديها، أو على الأقل بطريقة علاجها إن وقعت!
في عالم التربية، تجد بعض الآباء يُرهِّب أبناءه من ارتكاب الأخطاء، وينسى أن أفضل طريقة في التعلم هي وسيلة «التجربة والخطأ»! دعوا أبناءكم يجربوا ويخطئوا، ليتعلموا ويكتشفوا ويبتكروا، دون أن يعتمدوا على رؤاكم وتجاربكم. أتيحوا لأبنائكم الفرصة ليخطئوا ويفشلوا، ليقبلوا فشلهم ويحتووه ويستفيدوا من أخطائهم ويعدِّلوها، ويطوروا أفكارهم بأنفسهم ... فقط راقبوهم!
في بداية دراستي الجامعية، كان زميل لي يقرأ نصاً إنجليزياً بصوت عالٍ أمام الطلاب، يتهجى ويتلعثم ويخطئ، وكان بعض زملائي في آخر الفصل يضحكون ويسخرون منه مع كل خطأ يقع فيه، إلى أن ضاق بهم الأستاذ ذرعاً، فقام من كرسيه بعد أن عبس وجهه، وأوقف أربعة طلاب في آخر الفصل، ووبخهم قائلاً: «تذكروا أنكم جئتم هنا لتخطئوا حتى تتعلموا! اعلموا أن زميلكم يقرأ ويخطئ ويتعلم الآن في الفصل، وقد تسخرون منه، لكن ذلك خيرٌ له من أن يقرأ أمام مجلس إدارة إحدى الشركات بعد أن يتخرج، ويسخر منه كبار مسؤوليها لسوء لغته! ارتكبوا الأخطاء وتعلموا هنا في الفصل، فهنا يُسمح بالأخطاء التي قد لا تُغتفَر خارجه». لا تزال كلماته ترنُّ في مسمعي، وأتذكر معها أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الإنسان هو الخوف من ارتكاب الخطأ!
الأخطاء ليست دائماً بالأمر السيئ كما يظن كثير منا، فـ «كولومبس» اكتشف أمريكا بالخطأ، فقد كانت نيته أصلاً الوصول إلى آسيا عن طريق الإبحار غرباً من شبه الجزيرة الإيبرية (أسبانيا والبرتغال حالياً)، معاكساً الطرق البحرية المعروفة آنذاك! كما زاد اكتشافه هذا إثبات كروية الأرض، وأثبت أيضاً أن الأرض أكبر بكثير مما كان يتوقع معظم الناس آنذاك... كل ذلك حدث بالخطأ!
«الكسندر فليمنغ» نال شرف اكتشاف البنسلين (مضاد حيوي)، ولكن بالخطأ، بسبب إهماله تحديداً! وكان يدرس في مختبره بلندن البكتيريا المسببة للعدوى بعد أن رأى شناعة تأثيرها على جروح الجنود القادمين من المعارك، وعند ذهابه لإجازته الصيفية، نسيَ صحون زراعة البكتيريا الضارة متناثرة على مكتبه، قريباً من نافذة مفتوحة، إهمالاً منه... خطؤه هذا قاده إلى أعظم اكتشافاته. فالصحون التي تركها على مكتبه بدأ ينمو فيها العفن. وبعد عودته من إجازته، اعتقد في البداية أن العينات في الصحون فسدت ويجب رميها، لكنه لاحظ بالصدفة أن بكتيريا العدوى الضارة الموجودة حول العفن في أحد الصحون قد تم القضاء عليها تماماً بواسطة فطريات قذفها الهواء في الصحن.. وتم حينها اكتشاف «البنسلين» رسمياً، وأصبح فليمنغ بعدها أشهر من نار على علم!
ليتنا نتذكر دائماً أن الأخطاء وما تحمله من إخفاقات قد تكون أحجارا تعترض طريقنا، لكنها في النهاية تصبح، هي نفسها، الأحجار التي نستخدمها لبناء سُلَّم نجاحاتنا لنصعد عليها نحو أهدافنا.
خالد السالم
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة (شايع الشايع)
