بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

.. .. ..

كنت في مجلس يضم جمعاً من زملائي ، ونفر من إخوة لا أعرفهم .. وصدف أن تحدث أحدهم عن فضل الملائكة عليهم السلام ، واشتمل الحديث عن خَلْقهم وخُلقهم ، دينهم وتعبدهم .. قياسا بالبشر ..

بعد أن أنهى ذاك الأخ حديثه ، قلت بأني أرى بأن الأنبياء والأولياء الصالحين من البشر أفضل من الملائكة جملة وتفصيلا ..

وذلك من بابين .. أولهما قوله تعالى ( إنّا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) وثانيهما بأن من أوتي الإختيار ( إما شاكرا وإما كفورا ) فجاهد وتعب وناضل حتى يعبد الله حق عبادته خير ممن قد جبل على التعبد لله سبحانه وتعالى قوة وجبراً .

تعجب الإخوة .. وقالوا بأنني ربما قد وقعت في محظور .. وأنني تفوهت بكملة قد تهوي بي في النار سبعيا خريفاً ..

اكتفيت بقول بأني لا أرى مزعجاً لفطرتي الدينية فيما قلتُه ، ولكن في نفس الوقت يحتاج الأمر لرأي عالم أكثر من حاجته لمنطق طالب في الحاسب !!


واليوم وأنا أقرأ في كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي ، قرأت فصلا يتحدث عن التفاضل بين الملائكة والبشر .. فتمنيت لو أستطيع أن أوصل هذا الكلام للإخوة الذين كانوا في ذاك الإجتماع ، لتعم فائدة و لتُستنبط فكرة علّ الله أن يجعل فيها خيرا كثيرا ..

لكن هيهات فقد تقطعت بنا السبل ، وذهب كلٌ لما يسره الله له .. فارتأيت أن أطرح الموضوع هنا فقد يمر أحدهم ويقرأه فيحصل المراد - لعلمي بمتابعتهم لهذا المنتدى - ، ومن زاويةِ رؤيةٍ أخرى ليستفيد منها بقية الأعضاء والزائرين هنا ..



أترككم مع أسطر ابن الجوزي .. من كتابه صيد الخاطر الصفحة السابعة والخمسون ..




( ما أزال اتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء و الأولياء ، فإن كان التفضيل بالصور ، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة .
و إن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها ، فالصورة ليست الآدمي ، إنما هي قالب . ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة مثل خلوف فم الصائم ، و دم الشهداء ، و النوم في الصلاة فبقيت صورة معمورة و صار الحكم للمعنى .

ألهم مرتبة يحبهم بها ، أو فضيلة يباهى بهم ؟ ، و كيف دار الأمر فقد سجدوا لنا . و هو صريح في تفضيلنا عليهم . فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة ، يوم ( لا علم لنا ) [البقرة : 32] ، ( قال يا آدم أنبئهم ) [البقرة : 33 ].

و إن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس ، و علينا أثقال أعباء الجسم .
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها ، و يرفق في السير ؛ بها لطرق أرض منى قبل العشر .

واعجباً أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صادّ .
أوَ يتعجب من الماء إذا جرى ، أو من منحدر يسرع ؟! إنما العجب من مصاعد يشق الطريق و يغالب العقبات !.

بلى قد يتصور منهم الخلاف ، و دعوى الألوهيه لقدرتهم على دك الصخور ، و شق الأرض لذلك تُوعدوا :
( و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [الأنبياء : 29 ]، لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه .

فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية و ضعف يقيننا بالناهي ، و غلبة شهوتنا مع الغفلة تحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم .
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به ، لم يقدر على التماسك .
يصبح أحدنا و خطاب الشرع يقول له : الكسب لعائلتك ، و احذر في كسبك . و قد تمكن منه ما ليس من فعله ، كحب الأهل ، و علوق الولد بنياط القلب ، و احتياج بدنه إلى ما لا بد منه .
فتارة يقال للخليل عليه السلام : اذبح ولدك بيدك ، و اقطع ثمرة فؤادك بكفك ، ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار .
و تارة يقال لموسى عليه السلام : صم شهراً ، ليلاً و نهاراً .
ثم يقال للغضبان : اكظم ، و للبصير : اغضض ، و لذي المقول : اصمت ، و لمستلذ النوم : تهجد ، و لمن مات حبيبه : اصبر ، و لمن أصيب في بدنه : أشكر ، و للواقف في الجهاد بين الغمرات : لا يحل أن تفر .
ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات ، فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت .
و اعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر .
و إن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق .

فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ و هل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع ، و لا رد هوى ؟
و هل هي إلا عبادة صورية بين ركوع و سجود و تسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا ، و دافعين عنا ، و مسخرين لإرسال الريح و المطر ، و أكبر وظائفهم الاستغفار لنا .
فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة ؟ .

و إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت و ماروت ، فخرجوا أقبح من بهرج .
و لا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير ، لأنهم شديدو الإشفاق و الخوف ، لعلمهم بعظمة الخالق . لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوي نفسه . و انزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي .

فاعرفوا إخواني شرف أقداركم ، و صونوا جواهركم عن تدنيسها بلؤم الذنوب ، فأنتم معرض الفضل على الملائكة ، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم . )

انتهى كلامه .. يرحمه الله .